( تحقيق خاص )
في شارع المطاعم المتفرع من شارع التحرير بالعاصمة صنعاء، يجلس الخمسيني (م. ع. ن.) على الطاولة ذاتها أمام قهوة الدبعي.
بهيئته الوظيفية المعتادة منذ أكثر من ثلاثين عاما، يطلب كل صباح كأس قهوته وينتظر صامتا موعد دوامه في وزارة الثقافة القريبة من المكان.
النظارة أعلى حاجبيه تظل على حالها دون أن يحتاج إلى إنزالها نحو عينيه؛ فلا يوجد ما يثير فضولهما لقراءته.
لقد فقد الكثير من طقسه الصباحي هنا. لا يتذكر متى كانت آخر مرة حملت فيها يداه صحفا إلى المكان. لكنه يتذكر أن عددها كان قد تضاءل شيئا فشيئا، حتى وصل إلى صحيفتين؛ فلم يعد معنيا بالذهاب إلى الكشك بعد ذلك.
الأكشاك هي الأخرى فقدت نكهتها الصباحية في صنعاء، كما أنها فقدت تلك العيون الفضولية التي كانت تتوقف طويلا عندها، متنقلة بين حشد العناوين المرصوفة بإغراء من يعرف كيف يعرض بضاعته.
أصبحت تكتفي ببيع السجائر ومستلزمات التلاميذ من أقلام وكراسات، وبعرض ملازم ومطبوعات الجماعة، وتفكر بتغيير أسمائها بما يتناسب مع مزاج تلك الجماعة.
مزاج التقلبات
على امتداد تاريخها النسبي، ظلت الصحف في اليمن خاضعة لمزاج التقلبات السياسية والعسكرية، فيختفي منها ما يختفي ويظهر ما يظهر.
وفي كل الأحوال، تحتفظ لها ذاكرة القراء بشيء من ذكرى. فعلى هذه الناصية أو تلك من شارع حيوي داخل العاصمة صنعاء -مثلا- تجد أثرا لبائع متجول كان يحمل للقارئ المعارض صحفه المطلوبة، وأثرا على ناصية شارع آخر لبائع الصحف الرسمية، وكيف كان لكل قارئ أن يختار وجهته؛ فضلا عمن لا يستمتع إلا بالذهاب إلى الأكشاك لأخذ حاجته من هناك، حيث يقتضي طقس الصباح ذلك.
مازالت بعض الأكشاك تحتفظ لكل صحيفة بمكانها وموضعها المحدد من تخشيبتها، وإن تحولت الآن إلى تخشيبة للغبار. فهنا كانت الصحف الرسمية (الثورة، الجمهورية، 26 سبتمبر، 14 أكتوبر، 22 مايو ... الخ)، وهناك أيضا الصحف غير الرسمية، (الحزبية، المستقلة، المعارضة) -مغضوبا عليها لا شك، إنما في النهاية لها مكانها ووجودها.
كل هذا اختفى تماما، لتختفي معه قصة ما يزيد عن تسعة عقود من عمر الصحافة في اليمن، وقصة أكثر من 300 صحيفة ومطبوعة تحصيها الذاكرة وتنساها المطابع.
دراسة إحصائية
بحسب دراسة إحصائية لنقابة الصحفيين اليمنيين، فإنه من بين 132 صحيفة ومجلة كانت تعمل قبل الحرب، لم يعد هناك سوى 13 صحيفة فقط. أي أن 119 صحيفة ومجلة توقفت؛ وهو عدد لا يمكن إلا أن يكون مهولا في لغة الأرقام.
تفيد الدراسة بأن الثلاث عشرة صحيفة هذه موزعة على النحو التالي: 5 صحف في صنعاء، 6 في عدن، و2 في تعز؛ بالإضافة إلى 10 وسائل جديدة صدرت خلال فترة الحرب، خمس منها في عدن، وأربع في صنعاء وواحدة في تعز.
النقابة أحالت هذا التراجع الكبير لعدد الصحف إلى الحرب التي شهدتها اليمن منذ الخامس والعشرين من مارس 2015، وما نجم عنها من تبعات سياسية واقتصادية وأمنية.
مدونة للفراغ
يقول زيد الفقيه، القائم بأعمال المدير العام لدار الكتب الوطنية -وهي أكبر مكتبة حكومية- في تصريحات صحفية، إن الدار كانت توثق 70% من الصحف والمجلات والدوريات اليمنية. لكن أكثر من 90% من تلك الصحف والمجلات والدوريات توقف بسبب الحرب؛ إذ لم يعد يصدر سوى بضع صحف سياسية معبرة عن سلطة جماعة الحوثي غير المعترف بها في صنعاء، مضيفا: «منذ بدء الحرب لم نوثق أي مجلة أو دورية يمنية؛ لأن جميعها توقف. فآخر دورية يمنية صدرت ووثقناها كان العدد 15 من مجلة غيمان عام 2015». (انظر: القدس العربي "دار الكُتب الوطنية في صنعاء: ما الذي أحدثته الحرب؟" 1 - يوليو - 2020 أحمد الأغبري).
لكن بحسب مراقبين، فإن الحرب لم تكن وحدها السبب المباشر في اختفاء تلك الصحف، بقدر ما أن جماعة الحوثي، التي استولت على الحكم في العام 2014، جاءت بمزاج معادِ لحرية التعبير وتعدد الآراء؛ وهو الأمر نفسه بالنسبة لبعض التكوينات الحاكمة في المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة الحكومة، فكان للكثير من تلك الصحف أن يختفي تلقائيا عن المشهد، وما تبقى ستتكفل الأيام باختفائه؛ بحيث لن يحل العام 2017 إلا وقد تقلص عدد الصحف في صنعاء إلى صحيفتين رسميتين (الثورة، 26 سبتمبر) وصحيفة اليمن اليوم (لسان حال الحزب الحاكم سابقا)، والتي ستختفي هي الأخرى بعد مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح في ديسمبر 2017، بالإضافة إلى ثلاث صحف تابعة للجماعة طرأت على المشهد (لا، المسيرة، الهوية) لتختفي منها اثنتان بعد ذلك، وتبقى واحدة (لا).
رحلة التيه
في العام 2014، ومع استحواذ جماعة الحوثي على السلطة عبر انقلاب مرحلي في صنعاء، أعلنت صحيفتا "الشارع" و"الأولى" المستقلتان توقفهما عن الصدور، لعدم قدرتهما على تحمل تكاليف الطباعة، والوفاء بالتزاماتهما تجاه الموظفين. ثم في العام 2015 عاودت الصحيفتان العمل، لكن لبضعة أشهر فقط؛ حيث كانت المضايقات من قبل جماعة الحوثي هي السبب هذه المرة.
بحسب البيان الصادر عن الصحيفتين بتاريخ 6 أغسطس/آب 2006، فقد أعلنت "هيئتا تحرير صحيفتي الأولى والشارع عن اضطرارهما، آسفتين ومعتذرتين من قرائهما الكرام، إلى التوقف مرة أخرى عن الصدور، بفعل حملة تحريض شرسة تضع الصحيفتين والصحفيين العاملين فيهما على محك خطر حقيقي".
في تصريحه الخاص لـ" مشروع صحافة السلام" كشف الصحفي نائف حسان، رئيس تحرير صحيفة الشارع، عن عدد من التفاصيل التي استدعت توقف الصحيفة للمرة الثانية في صنعاء، وكيف اضطرها ذلك للانتقال سرا بمطبعتها وأثاثها إلى عدن، على أمل أن تكون البيئة هناك مهيأة بشكل أفضل. لكن لم تكد الصحيفة تعلن عن معاودة الصدور للمرة الثالثة في عدن، بعد كل رحلة التيه التي حدثت لها، حتى اصطدمت بحائط صد أجبرها على التوقف.
يقول حسان: "كان سبب التوقف الثاني للصحيفة في العام 2015، بعد أن حاولنا العودة، هو التهديدات التي تلقيناها من مليشيا الحوثي، حيث كنا نغطي حربها ضد المحافظات بطريقة مهنية، بينما لم يكونوا يريدون إلا أن نتبنى خطابهم حتى في عدم تسمية بقية اليمنيين الذين يقاومونهم بالمقاومة، فرفضنا ذلك. وهذا الأمر حال دون قدرة الصحيفة على الاستمرارية".
ويضيف : "في العام 2019 أعدنا إصدار الصحيفة من عدن، ولكن وجدنا صعوبات كبيرة حالت دون استمرار العمل، ومن تلك الصعوبات أن مساحة التوزيع أصبحت ضيقة، حيث كنا ممنوعين من توزيع الصحيفة في مناطق جماعة الحوثي، ومثلها في المناطق التي يهيمن فيها نفوذ حزب الإصلاح، كتعز ومأرب وشبوة، ولم يتبق لنا غير توزيع الصحيفة في عدن ولحج وأبين، وهذا أدى إلى ضعف قدرتنا على مواجهة التحديات".
يختتم رئيس تحرير صحيفة الشارع حديثه بالقول: "كانت الالتزامات المالية كبيرة، فسعر البنزين على سبيل المثال كان قد أصبح جنونيا، وهذا أضاف علينا أعباء، وكذلك أعباء مرتبات وأجور الموظفين وغيرها... كل ذلك حتم علينا التوقف عن الصدور".
ثم في 13 أبريل/نيسان 2021، أعلنت صحيفة الشارع "توقف إصدار النسخة الورقية من الصحيفة"، حسب تنويهها في آخر عدد ورقي أصدرته في عدن.
سياسة السلطات الطارئة
قد لا تكون قصة صحيفة الشارع سوى مثال عن عشرات القصص المماثلة للصحف الأخرى التي اختفت عن المشهد تماما، وأصبحت أثرا بعد عين.
في حديث خاص لـ"نوقع مشروع صحافةالسلام" حول الأسباب التي دعت غالبية الصحف في اليمن إلى مغادرة المشهد، أكد سكرتير لجنة الحريات بنقابة الصحفيين اليمنيين، أشرف الريفي، أن "أبرز الأسباب التي أدت إلى إيقاف الصحف يتمثل في المخاطر الأمنية والقمع التي تعرضت لها الصحافة بعد أن تم إلغاء مبدأ التعددية الإعلامية، وسعي كل طرف من أطراف الحرب الإبقاء على الصحف الموالية له".
يشير الريفي في حديثه إلى أسباب أخرى؛ منها "ضعف البنية التحتية للصحف -سواء الحزبية أو الأهلية أو الرسمية- حيث عجزت عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها وإيجاد البديل من الانتقال إلى مناطق أخرى تستطيع العمل فيها بعيدا عن الملاحقة الأمنية والسياسية".
كما يشير إلى سلبيات كان يعاني منها واقع الصحف في اليمن قبل الحرب، ومن تلك السلبيات "أنها كانت تتبع إما مراكز قوى عسكرية أو سياسية أو أحزابا، أو كانت صحفا رسمية، وكان تواجد الصحف المستقلة ضعيفا وفي بيئة لا تساعدها على الاستمرار في ظل غياب هيئة وطنية توزع الإعلانات بالتساوي للصحف".
ونوه إلى أن "هذه السلبية انعكست على استمرار إصدار الصحف؛ حيث اضطر كثير من مراكز القوى إلى استبدال الصحف بمواقع إلكترونية، أو الاكتفاء بالصحافة الإلكترونية في ظل المعوقات الأمنية التي كانت تعوق عمل الصحافة الورقية وتنقل الصحف وتوزيعها".
ويؤكد سكرتير لجنة الحريات بنقابة الصحفيين اليمنيين: "تأثرت الصحافة اليمنية بالانقسامات السياسية التي حدثت، وصار من الصعب توزيعها أو العمل في مناطق تسيطر عليها جماعات مسلحة لا تؤمن بالتعددية الإعلامية والسياسية"، مضيفا: "ولعل التحريض الذي تعرض له الصحفيون والصحف من قيادات أطراف الصراع أثر أيضا في استمرار العمل؛ حيث اتُّهم الصحفيون بالعمالة والارتزاق بسبب ممارسة مهنتهم. هذه العراقيل والقيود جعلت بعض ملاك الصحف يصدرون الصحف إلكترونيا؛ للتغلب على الرقابة ومضايقة السلطات المتعددة".
ويختتم الريفي حديثه لـ"تمدن" بالقول: "لعل الصحف تأثرت أيضا بالاعتداءات التي تعرضت لها بعض الصحف، كصحيفة الجمهورية بتعز التي تم قصفها والاعتداء عليها ونهب ممتلكاتها، ناهيك عن الواقع الذي خلقته الحرب بانقطاع الكهرباء وإغلاق الصحف التي لا تنسجم مع سياسة السلطات الطارئة".