( تحقيق إخباري: ابتـهـال سلمـان )
رحلة طويلة من الألم والدموع عاشتها "حياة" منذ أن اكتشفت قبل أكثر من ست سنوات أن الكتلة التي أحست بها في أحد ثدييها، تحولت من ورم حميد إلى ورم سرطاني أخذ ينهش روحها وجسدها النحيل الذي أنهكته أكثر جرعات الدواء الكيميائي لما يقارب العام.
تقول "حياة"، من مدينة صنعاء، إن السرطان يخلق لديها ندوباً جسدية ونفسية عميقة؛ رغم تمسكها بالحياة لأجل ابنتها الوحيدة التي فقدت أباها من قبل. "من سيتبقى لها إن رحلت؟!".
سافرت "حياة"، وابنتها الوحيدة "سمر"، إلى العاصمة المصرية القاهرة، جرياً وراء أمل بالعلاج، بعد أن فشلت كل مساعي علاجها في اليمن، جراء الحرب وما خلفته من تدهور كبير في البنية التحتية للقطاع الصحي.
في القاهرة، بدأت "حياة" رحلة جديدة ما بين المراكز الخاصة والعيادات؛ فحوصات وجرعات علاج كيماوي وإشعاع، كلفتها أموالاً طائلة.
تقول "حياة": "أهملت علاج الورم الليفي، خشية أن يستأصلوا ثديي. ليتني فعلت في حينه!". "جيهان" أيضاً اكتشفت أنها مصابة بسرطان الثدي في الشهر الخامس من آخر حمل؛ بطفلها الرابع. تقول: "حين قالت الطبيبة إني مصابة بسرطان الثدي، ويجب أن أجهض وأنزل جنيني وإلا سيولد مشوهاً جراء جرعات الكيماوي، أحسست بالأرض تهتز من تحتي وأني أختنق. غادرت عيادة الطبيبة، وفي الطريق كنت أسبح بدموعي، حتى أغمي عليَّ وتم إسعافي إلى المستشفى".
تضيف جيهان: "بعدها بأسبوع سافرت إلى القاهرة. ومنذ قرابة عام ونصف، وأنا في رحلة مؤلمة وباهضة من العلاج! حُرم طفلي من الرضاعة الطبيعية، وتلاشى أملي بأن يكبر أمامي! كثيرا ما تراودني الهواجس وأسأل نفسي: ماذا إن رحلت وتركتهم؟! لعل هذا الخوف هو ما يدفعني لتحمُّل الجرعات الكيماوية، التي لا أستطيع وصف آلامها ومعاناتي معها".
رغم هذه المعاناة والآلام، فإن "حياة" و"جيهان" ما تزالان أوفر حظاً من فاطمة، التي فارقت الحياة بانتظار ثمن تذكرة السفر! إنها التجسيد الأوضح لتداعيات وآثار الحرب وما ترتب عليها من تدهور اقتصادي ومعيشي للكثير من الأسر اليمنية، وتدهور الخدمات الصحية، وارتفاع أسعار العلاج، وتكاليف السفر.
رحلت فاطمة هناك، في اليمن، وكان الأمر يحتاج فقط تذكرتي سفر، أو ربما خدمة طبية جيدة. يقول زوجها، الذي يقيم في مديرية طور الباحة بمحافظة لحج، إن فاعل خير كان قد تكفل بتذاكر الطيران ومبلغ مالي متواضع؛ لكنه لم يفعل إلا وروح فاطمة قد حجزت رحلتها إلى السماء. أثارت الحرب مشاكل كثيرة، من ارتفاع أسعار العلاج إلى تراجع خدمات المراكز الصحية المعنية بعلاج السرطان، ناهيك عن إغلاق بعضها، مروراً بانشغال الناس بضروريات البقاء على قيد الحياة وسد رمق أسرهم.. فأصبح الكشف المبكر عن أمراض السرطان عموماً، وسرطان الثدي بشكل خاص، ترفاً لا مكان له في قائمة أولويات زمن الحروب.
يعدّ سرطان الثدي أكثر أنواع السرطانات شيوعاً بين النساء. وترصد مراكز طبية في عدة مدن يمنية متخصصة بالأورام تصاعد حالات الإصابة بسرطان الثدي في اليمن.
وتؤكد أن التشخيص المبكر يساعد كثيراً في التغلب على هذا المرض، وهذا ما أظهرته إحصائيات بمعدلات نتائج الكشف المبكر عن المرض. ويعد شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام موسماً لحملات التوعية بطرق مكافحته، والتركيز على أهمية التشخيص المبكر للحد من خطورته، فضلاً عن تزويد مرضاه بالرعاية المخففة لوطأته.
الدكتورة لميس سلطان، أخصائية أمراض نساء وولادة، قالت لموقع "إعلاميون من أجل السلام"، إن الكشف المبكر عن أورام الثدي كثيراً ما يصنع الفرق على مستوى التشخيص والمعالجة؛ فمن حيث التشخيص يمكن تلافي 80% من الحالات في مراحلها الأولى، والتعامل معها قبل التحول إلى أورام خبيثة. وهذا معيار دولي مبني على دراسات، بحسب الدكتورة سلطان.
أما علاجياً، ففي مرحلة الأعراض الأولى يمكن للمريضة قطع أشواط كبيرة من رحلة التعافي، ومجابهة المرض في أيامه الأولى. وعلى العكس تماماً مع الحالات التي يتأخر الكشف عنها.
توضح الدكتورة سلطان أن سرطان الثدي هو مرض تنمو فيه خلايا الثدي وتتكاثر بشكل غير طبيعي وخارج عن السيطرة، لتشكل أوراماً. ويمكن للأورام إذا تركت دون علاج أن تنتشر في جميع أنحاء الجسم. تبدأ الخلايا داخل قنوات الحليب و/ أو الفصيصات المنتجة للحليب في الثدي. والشكل الأولي لها لا يهدد الحياة، إذا تم الكشف عنه في مراحل مبكرة. ويمكن أن تنتشر الخلايا السرطانية إلى أنسجة الثدي القريبة، ما يصبح أوراماً تسبب كتلاً سميكة. كما يمكن أن تنتشر السرطانات الغازية إلى العقد الليمفاوية القريبة أو أجهزة الجسم الأخرى، وهنا تشكل تهديداً لحياة المريضة.
وتضيف أن العلاج يعتمد على الشخص ونوع السرطان وانتشاره. ويجمع العلاج بين الجراحة والعلاج الإشعاعي والأدوية. وتبقى التوعية هي الخطوة الأولى في المعركة ضد سرطان الثدي، ويظل الكشف المبكر حجر الزاوية في مكافحته.
من جهته يقول طبيب المختبرات في مدينة عدن طه محمد، لموقع "إعلاميون من أجل السلام": "يوجد في عدة محافظات يمنية مراكز للكشف وعلاج السرطان، منها الحكومي والأهلي، ورغم جهود المكافحة المشتركة كوقاية توعوية وتثقيفية، ومعالجة مباشرة من قبل مركزي الأورام الحكوميين في صنعاء وعدن، ومراكز أهلية في كل من تعز والحديدة وإب وحضرموت، إلا أن معدلات الإصابة بسرطان الثدي في تزايد، فهو يعد الأول شيوعاً بين النساء، محلياً وعالمياً".
ويضيف أن سرطان الثدي في اليمن يحتل المرتبة الأولى بين السرطانات الأكثر انتشاراً، وقد تبيّن في السنوات الأخيرة أن معدلات الإصابة به آخذة في الارتفاع باطراد؛ لعدة عوامل، لعل أبرزها تدني مستوى الوعي المجتمعي بأهمية الفحص والكشف المبكر، بالإضافة إلى عدم كفاية الخدمات الصحية، والتي تفاقم تدهورها جراء الحرب، ناهيك عن عدم توفر العلاج المناسب وارتفاع أسعاره في ظل ظروف اقتصادية سيئة يكابدها الكثير من المرضى.
ورغم أن حملات التوعية بخطورة سرطان الثدي، وجمع التبرعات للمريضات، في أكتوبر من كل عام، إلا أنها أيضا تثير ذكريات أليمة لدى الناجيات من مرض سرطان الثدي. وفي ذلك، تقول الأخصائية النفسية الاجتماعية الدكتورة أشجان الفضلي، لموقع "إعلاميون من أجل السلام"، إن "المناسبة السنوية" للتشخيص بالإصابة بالسرطان تثير مخاوف وقلقاً لدى المتعافيات من المرض، وسط تحذيرات من ندرة ذكر الناجيات، رغم أن الخوف من عودة السرطان أمر شائع لديهن.
وتضيف الفضلي أن الدعم الاجتماعي والعائلي هو ركن أساسي في رحلة العلاج عموما، وخاصة لدى مريضة سرطان الثدي، إذ يلعب هذا الدعم دوراً حاسماً في تحسين الحالة النفسية للمريضة وتقوية عزيمتها، ومساعدتها على تجاوز التحديات التي تواجهها. وتؤكد ضرورة وجود شبكة دعم قوية للمساعدة في تخفيف حدة التوتر والقلق المصاحبين للمرض، ما يساهم في تحسين الحالة المزاجية والنفسية للمريضة، كما أن الشعور بالاهتمام والدعم يمنح المريض شعوراً بالأمان والاستقرار يساعد في تعافيه، ويعزز قدرته على مواجهة المرض. وفي الوقت ذاته ينعكس الدعم النفسي بشكل إيجابي لدى جميع أفراد أسرة المريض؛ لأنهم يتأثرون بما يشاهدونه من معاناة مريضهم.
وبحسب الفضلي، توجد مراكز تقدم جلسات دعم نفسي؛ "ولكن حسب علمي ليست مراكز متخصصة بتقديم برنامج متكامل لمريضة سرطان الثدي؛ فقط تحصل المريضة على جلسة أو جلستين كنوع من التوعية المصاحبة لجلسة الدعم النفسي".
وفي بلد يعاني صراعا مستمراً، تمثل نسبة سرطان الثدي 25% من أنواع السرطانات التي تصيب نساء اليمن، بحسب منظمة الصحة العالمية. وقد تصل نسبة الشفاء من سرطان الثدي غالباً إلى 95%، إذا تم اكتشاف المرض مبكراً والخضوع للعلاج وزيارة العيادة دورياً.
ويعاني القطاع الصحي في اليمن جراء تداعيات الحرب المستمرة منذ 10 سنوات، فضلا عن التراجع الحاد في تمويل هذا الجانب، ما تسبب في استمرار انتشار الأمراض والأوبئة في بلد يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم.